الإنسان والمجتمع الإنساني هدف أساسي في القرآن الكريم لما حظي به الكائن البشري من كرامة عند الله، ومكانة في الكون، وقدرة على الخلافة. وسور القرآن الكريم تتناول جوانب شتى مما يرتبط بالإنسان والمجموعة البشرية في إطار عقائدي تارة واجتماعي وتاريخي وأخلاقي تارة أخرى.
والأستاذ الباحث بدأ الحلقة الأولى بمباحث تمهيدية ثم يتناول في هذه الحلقة موضوع استخلاف الإنسان في الأرض.
?وإذا قال ربُّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا: أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون _ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكم _ قال يا
آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون_ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين_ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين_ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين _ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم _ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون_ والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون?(1).
هذه الآيات العشر تتحدث عن قضية استخلاف الله سبحانه لآدم على الأرض، وهو استخلاف للنوع الإنساني في الأرض ـ كما سوف نعرف ذلك ـ وقضية الاستخلاف هذه تشتمل على جانبين وفصلين:
الفصل الأول: يتناول معنى الاستخلاف، والحكمة، والعلة فيه ومبرراته، وهذا الجانب من قصة آدم يشير إليه القرآن الكريم في عدة مواضع، ولكن أكثرها تفصيلاً ووضوحاً الآيات الأربع الأولى من هذا المقطع الشريف، وذلك لأن جميع آيات الاستخلاف تتحدث عن هذا الموضوع ـ أيضاً ـ إلا أنها تتحدث عن استخلاف الإنسان عموماً، مثل قوله تعالى: ?وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم?(2).
وقوله تعالى: ?هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا
يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلاّ خسارا? (1).
وقوله تعالى ?ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون?(2).
وقوله تعالى: ?إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا?(3).
وسوف نلاحظ أن هذه الآيات الكريمة الأخرى تكمل الصورة في فهم هذه الخلافة ومبرراتها، التي لا تختص بشخص آدم.
والفصل الثاني: يتناول مسيرة الخلافة من الخلق إلى الأرض، والعملية التي تم بها إنجاز هذا الاستخلاف خارجاً، وهذا الجانب تحدث عنه القرآن في مواضع متعددة منها ما ورد في هذا المقطع الشريف من سورة البقرة من الآية 30 إلى 39، ومنها ما ورد في سورة الأعراف من قوله تعالى: ?ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معيش قليلا ما تشكرون_ ولقد خلقنكم ثم صورنكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من السجدين_ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين_ قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصغرين_ قال أنظرني إلى يوم يبعثون_ قال إنك من المنظرين_ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم_ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمنهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شكرين_ قال أخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم
أجمعين_ ويآدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين_ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخلدين_ وقاسمهما إني لكما لمن النصحين_ فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءتهما وطفقا يخصفان عليهما من روق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين_ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخسرين_ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين_ قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون_بيني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير_ ذلك من آيت الله لعلهم يذكرون _ يبني آدم لايفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشيطين أولياء للذين لا يؤمنون? (1).
وكذلك ما ورد في سورة طه في الآية 115 ـ 123، وغيرها من الآيات، ولابد من دراستها بشكل عام.
إن ما يعنينا من دراسته في هذا الفصل، هو الآيات الأربع الأولى من هذا المقطع القرآني الشريف، والآيات الأخرى المشابهة السابقة. والبحث فيها، وما تضمنته من معلومات ومفاهيم، وله عدة جوانب:
الأول: تحديد الموقف العام تجاه دراسة هذه الآيات من هذا المقطع القرآني، وتصوير ما يعنيه القرآن الكريم منها.
الثاني: تحديد الموقف القرآني والإسلامي تجاه بعض المفاهيم التي جاءت في هذا المقطع، بالشكل الذي ينسجم مع المسلمات القرآنية، والظهور اللفظي لهذا المقطع بالخصوص.
وقد اختص هذان الأمران بهذا المقطع، لما ذكرناه من وضوحه وتفصيله.
الثالث: بيان الصورة الكاملة حول الاستخلاف، التي يمكن استفادتها من مجموع الآيات القرآنية الشريفة المتشابهة.
وفيما يتعلق بالجانب الأول نجد الشيخ محمد عبده تبعاً لبعض الدارسين المتقدمين يذكر رأيين مختلفين بحسب الشكل وأن كانا يتفقان في النهاية، حسب ما يقول:
الرأي الأول: هو الذي سار عليه السلف واختاره الشيخ محمد عبده نفسه أيضاً، حيث يقول: «وأما ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شؤون الله مع ملائكته، صوره لنا في هذه الفصول بالقول والمراجعة والسؤال والجواب، ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول، ولكننا نعلم أنّه ليس كما يكون منا، وأن هناك معاني قصدت إفادتها بهذه العبارات، وهي عبارة عن شأن من شؤونه تعالى قبل خلق آدم وأنه كان يعد له الكون، وشأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الإنسان، وشأن آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله» (1).
والرأي الثاني: الرأي الذي سار عليه الخلف من المحققين وعلماء الإسلام الذين بذلوا جهدهم في دراسة القرآن والتعرف على مقاصده وتأويله على
أساس العقل، فإذا جزم العقل بشيء وورد النقل خلافه، يكون حكم العقل القطعي قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره، حيث يرون أن هذه القصة بمواقفها المختلفة إنّما جاءت على شكل التمثيل ومحاولة تقريب النشأة الآدمية الإنسانية وأهميتها وفضيلتها، وأن جميع المواقف والمفاهيم التي جاءت فيها لا يمكن فهم حقيقة المعاني والأهداف التي قصدت منها، بل يأتينا الله في ذلك ما يقرب المعاني من عقولنا ومخيلتنا (1).
فالرأي الأول والثاني وإن كانا يلتقيان في حقيقة تنزيه الله سبحانه وتعالى وعالم الغيب عن مشابهة المخلوقات المادية المحسوسة في مثل هذه المشاهد والمواقف المختلفة، وكادا يتفقان ـ أيضاً ـ في الأهداف والغايات العامة المقصودة من هذا المقطع القرآني، ولكنهما مع ذلك يختلفان في إمكانية تحديد بعض المفاهيم التي وردت في المقطع، كما سوف يتضح ذلك عند معالجتنا للمقطع القرآني من جانبه الآخر.
وفيما يتعلق بالجانب الثاني نجد السلف ـ انسجاماً مع موقفهم في الجانب الأول ـ يقفون من دراسة المقطع موقفاً سلبياً، ويكتفون ـ في بعض حالات الانفتاح ـ بذكر الفوائد الدينية التي تترتب على ذكر القرآن لهذا المقطع القرآني «المتشابه» الذي لا يمكن فهم حقيقة المعاني فيه.
وقد أشار الشيخ محمد عبده إلى بعض هذه الفوائد، ونكتفي بذكر فائدتين منها:
الأولى: أن الله سبحانه وتعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه (2).
الثانية: أن الله لطيف بعباده رحيم بهم، يعمل على معالجتهم بوجوه اللطف والرحمة، فهو يهدي الملائكة في حيرتهم ويجيبهم عن سؤالهم عندما يطلبون الدليل والحجة بعد أن يرشدهم إلى واجبهم من الخضوع والتسليم: ?... إني أعلم مالا تعلمون _ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة...?(1).
وأما الخلف فقد حاولوا إيضاح المفاهيم التي وردت في هذا المقطع القرآني ليتجلى بذلك معنى استخلاف الله سبحانه وتعالى لآدم.
وعلى أساس منهج الخلف نرى في المقطع القرآني عدة مواضيع للحديث ترتبط بقضية الاستخلاف، يحسن بنا الإشارة إليها، والوقوف عندها، ثم الحديث عن المعنى العام للمقطع القرآني:
الخليفة بحسب اللغة: من خلف من كان قبله، وقام مقامه، وسد مسده، وتستعمل ـ أيضاً ـ بمعنى النيابة(2)، ومن هذا المنطلق يطرح هذا السؤال: لماذا سمي آدم خليفة ؟ وما هو المضمون القرآني لهذا اللفظ؟
توجد هنا عدة مذاهب:
الأول: أن آدم سمي خليفة لأنه خلف مخلوقات الله سبحانه في الأرض، وهذه المخلوقات إما أن تكون ملائكة أو يكونوا الجن الذين كانوا قد أفسدوا في الأرض وسفكوا فيها الدماء، كما روي عن ابن عباس، أو يكونوا آدميين آخرين قبل آدم هذا (3).
الثاني: أنّه سمي خليفة لأنه وأبناءه يخلف بعضهم بعضاً، فهم مخلوقات تتناسل ويخلف بعضها البعض الآخر، وقد نسب هذا المذهب إلى الحسن البصري (1).
الثالث: أنّه سمي خليفة لأنه يخلف الله سبحانه في الأرض.
وفي تفسير هذه الخلافة لله سبحانه وارتباطها بالمعنى اللغوي تعددت الآراء واختلفت، ومن أهم هذه الآراء:
أ ـ أنّه يخلف الله في الحكم والفصل بين الخلق، لأن الله قد أعطاه حق القضاء وحل الاختلافات، وهو المروي عن ابن مسعود (2).
ب ـ يخلف الله سبحانه في عمارة الأرض واستثمارها، من إنبات الزرع، وإخراج الثمار، وشق الأنهار، وغير ذلك (3).
ج ـ يخلف الله سبحانه في العلم بالأسماء، كما ذهب إلى ذلك العلامة الطباطبائي (4).
د ـ يخلف الله سبحانه في الأرض بما نفخ الله فيه من روحه ووهبه من قوة غير محدودة، سواء في قابليتها أو شهواتها أو علومها، كما ذهب إلى ذلك الشيخ محمد عبده (5).
ولعل المذهب الثالث من هذه المذاهب الثلاثة، هو الصحيح، لظهور النص القرآني فيه، ولما ذكرته بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الشأن (6).
ويكون ما ذكر في القول الأول والثاني، إنّما هو من آثار هذه الخلافة ومترتباتها كما يمكن أن ما ذكره الشيخ محمد عبده في القول الرابع هو بيان السر في منح الإنسان هذه الخلافة، لأنه يتميز بهذه المواهب والقوى والقابليات، ولا يمثل رأياً قبال الآراء الأخرى في تفسير معنى الخلافة، وإنّما هو بيان السر والعلة لهذه الخلافة.
وبذلك يمكن أن نجمع بين هذه الأقوال.
لقد ذكر المقطع القرآني أن جواب الملائكة على إخبار الله تعالى لهم بجعل آدم خليفة في الأرض، أنهم تساءلوا عن سبب اصطفاء هذا المخلوق، ووصفوه بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكيف عرف الملائكة هذه الصفة في هذا الخليفة؟
وهنا عدة آراء:
الأول: أن الله سبحانه وتعالى أعلمهم بذلك، لأن الملائكة لا يمكن أن يقولوا هذا القول رجماً بالغيب وعملاً بالظن (1)، فلابد لهم من العلم ؛ والعلم مصدره الله تعالى، غاية الأمر أن هذا الإعلام لم يذكر في الآيات الشريفة، وإنما تم بطريقة ما فكأنه تعالى قال: إني جاعل في الأرض خليفة يكون من ولده إفساد في الأرض وسفك الدماء.
الثاني: أنهم قاسوا ذلك على المخلوقات التي سبقت هذا الخليفة ـ من الآدميين أو الجن ـ الذي سوف يقوم مقامها، كما يشير إلى ذلك بعض الروايات
والتفاسير، فعن ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة: إنّما أخبروا بذلك عن ظنهم وتوهمهم لأنهم رأوا الجن من قبلهم قد أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فتصوروا أنّه إن استخلف غيرهم كانوا مثلهم(1).
والى مثل هذا تشير بعض الروايات، مثل ما رواه العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: «ما علم الملائكة بقولهم: ?أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء? لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء» (2).
الثالث: أن طبيعة الخلافة تكشف عن ذلك بناء على الرأي الأول من المذهب الثالث في معنى الخلافة، حيث أن الفصل والحكم يفترض وجود الاختلاف والنزاع، ولازمه الفساد في الأرض وسفك الدماء.
أ ـ إن المزاج المادي والروحي لهذا المخلوق الذي يريد أن يجعله الله خليفة، والأساس الاجتماعي للعلاقات الأرضية التي سوف تحصل بين أبناء هذه المخلوقات، هي التي جعلت الملائكة يعرفون ذلك، يقول العلامة الطباطبائي: «إن الموجود الأرضي بما أنّه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية والدار دار التزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال وانتظاماتها واصطلاحاتها مظنة الفساد ومصب البطلان، لا تتم الحياة فيها إلاّ بالحياة النوعية ولا يكمل بالبقاء فيها إلاّ بالاجتماع والتعاون فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء» (3).
ب ـ إن الإرادة الإنسانية بما أعطيت من اختيار يتحكم في توجيهه العقل
بمعلوماته الناقصة، هي التي تؤدي بالإنسان إلى أن يفسد في الأرض ويسفك الدماء، قال محمد عبده: «أخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، نفهم من ذلك أن الله يودع في فطرة هذا النوع الذي يجعله خليفة أن يكون ذا إرادة مطلقة واختيار في عمله غير محدود، وإن الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال التي تعن له تكون بحسب علمه، وإن العلم إذا لم يكن محيطاً بوجوه المصالح والمنافع فقد يوجه الإرادة إلى خلاف المصلحة والحكمة، وذلك هو الفساد، وهو معين لازم الوقوع، لأن العلم المحيط لا يكون إلا لله تعالى» (1).
ويبدو أن الرأي الأول هو الصحيح، حيث إنه تعالى لابد وأنه قد أعلم الملائكة بذلك، ولو عن طريق إعلامهم بحال وطبيعة هذا المخلوق الذي ينتهي به الحال إلى هذه النتائج.
وأما مابين من هذه الطبيعة فلعل الصحيح هو بيان أمرين:
أحدهما: الخصوصية المادية الغضبية والشهوية، التي أشار إليها العلامة الطباطبائي وهي الهوى في طبيعة هذا الخليفة.
والآخر: هو أن هذا الإنسان مريد ومختار يعمل بإرادته، كما ذكر الشيخ محمد عبده، ويمكن أن نفهم ذلك من قرينة قول الملائكة: ?ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك?، حيث أن هذا التسبيح والتقديس أمر لازم في الملائكة لا ينفك عنهم ؛ لأنهم غير مختارين، بل يفعلون ما يؤمرون، بخلافه في الإنسان باعتبار إرادته، الأمر الذي استدعى التوضيح الإلهي، الذي يشتمل على بيان الخصوصية التي تجعل هذا الموجود مستحقاً لهذه الخلافة وهو العلم.
والصفتين، فقد قال تعالى في وصف الإنسان في خصوصيته المادية: ?زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب? (1).
كما تحدث عن اختياره فقال: ?إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً _ إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً? (2).
والأسماء من المفاهيم التي وقع الخلاف فيها بين علماء التفسير حول حقيقتها والمراد منها، والآراء فيها تسير في الاتجاهين التاليين:
الأول: أن المراد من الأسماء الألفاظ التي سمى الله سبحانه بها ما خلقه من أجناس وأنواع المحدثات وفي جميع اللغات، وهذا الرأي هو المذهب السائد عند علماء التفسير، ونسب إلى ابن عباس، وبعض التابعين (3).
وينطلق أصحاب هذا المذهب من فكرة أن الله سبحانه كان قد علم آدم جميع اللغات الرئيسة ؛ وقد كان ولده على هذه المعرفة، ثم تشعبت بعد ذلك واختص كل جماعة منهم بلغة غير لغة الجماعة الأخرى.
الثاني: أن المراد من الأسماء: المسميات، أو صفاتها وخصائصها، لا الألفاظ، وحينئذ فنحن بحاجة إلى القرينة القرآنية أو العقلية التي تصرف اللفظ إلى هذا المعنى الذي قد يبدو أنّه يخالف ظاهر الإطلاق القرآني لكلمة «الأسماء»
والقرينة الدالة على استعمال لفظ «الأسماء» في «المسميات»، يمكن أن نتصورها في الأمور التالية:
أ ـ كلمة «علم» التي تدل على أن الله سبحانه منح آدم «العلم» وبما «أن العلم الحقيقي إنّما هو إدراك المعلومات أنفسها، لأن الألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح فهي تتغير وتختلف، والعلم الحقيقي بالشيء لا يتغير، وهذا بخلاف المعنى فإنه لا تغيير فيه ولا اختلاف» (1)، فلابد أن يكون هو المسميات التي هي المعلومات الحقيقية.
ب ـ قضية التحدي المطروحة في الآيات الكريمة، ذلك أن الأسماء حين يقصد منها الألفاظ واللغات، فهي إذن من الأشياء التي لا يمكن تحصيلها إلا بالتعليم والاكتساب، فلا يحسن تحدي الملائكة بها، إذ لا دلالة في تعليمها آدم على وجود موهبة خاصة فيه يتمكن بها من معرفة الأسماء، بل علمها بالتعليم الذي كان يمكن للملائكة أن يعلموا من خلاله، وهذا على خلاف ما إذا قلنا: إن المقصود منها المسميات، فإنها مما يمكن إدراكه ـ ولو جزئياً ـ عن طريق إعمال العقل الذي يعد موهبة خاصة، فيكون لمعرفة آدم بها دلالة على موهبة خاصة منحه الله إياها.
قال الطوسي: «إنّ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ولا وجه لإيثاره الفضيلة بها»(2).
وقال الرازي: «وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة، بل ذلك لا يحصل إلاّ بالتعليم، فإن حصل التعليم حصل العلم به وإلا فلا، أما العلم بحقائق
الأشياء، فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه» (1).
ج ـ عجز الملائكة عن مواجهة التحدي، لأن هذه الأسماء لو كانت ألفاظاً لتوصل الملائكة إلى معرفتها بإنباء آدم لهم بها، وهم بذلك يتساوون مع آدم فلا تبقى له مزية وفضيلة عليهم، فلابد لنا من أن نلتزم بأنها أشياء تختلف مراتب العلم بها، الأمر الذي أدى إلى أن يعرفها آدم معرفة خاصة تختلف عن معرفة الملائكة لها حين إخباره لهم بها، وهذا يدعونا لأن نقول إنها عبارة عن المسميات لا الألفاظ.
قال العلامة الطباطبائي بصدد شرح هذه الفكرة: «إن قوله تعالى: ?...وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم...?، يشعر بأن هذه الأسماء ـ أو إن مسمياتها ـ كانت موجودات أحياء عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب، وإن العلم بأسمائهم كان غير العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء، وإلا كانت بإنباء آدم إياهم بها عالمين بها وصائرين مثل آدم مساوين معه» (2).
ولكن ما هي العلاقة المعنوية التي صححت استعمال لفظ «الأسماء» مجازاً من «المسميات»؟
وحين يصل أصحاب هذا الاتجاه إلى هذه النقطة نجدهم يحاولون أن يتعرفوا على هذه العلاقة ويذكرون لذلك قرائن متعددة:
1 ـ فالرازي يرى هذه المناسبة والعلاقة في مصدر اشتقاق الاسم، فإن هذا الاشتقاق إما أن يكون من السمه أو السمو «فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة، وصفات الأشياء خصائصها دالة على ماهياتها،فصح أن يكون المراد من الأسماء: «الصفات». وإن كان من السمو فكذلك، لأن دليل الشيء كالمرتفع
على ذلك الشيء، فان العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول» (1)، والصفات تدل على الموصوف، وهي كالظاهر المرتفع بالنسبة إلى الشيء.
2 ـ والشيخ محمد عبده يرى هذه العلاقة في «شدة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له وسرعة الانتقال من أحدها إلى الآخر».
3 ـ كما أنّه يرى في ذلك وجهاً آخر، يكاد يغنيه عن هذه العلاقة حيث: إن الاسم قد يطلق إطلاقاً صحيحاً على صورة المعلوم الذهنية (أي ما به يعلم الشيء عند العالم) فاسم الله مثلاً هو ما به عرفناه في أذهاننا لا نفس اللفظ، بحيث يقال: إننا نؤمن بوجوده ونستند إليه صفاته، فالأسماء هي ما يعلم بها الأشياء في الصور الذهنية وهي العلوم المطابقة للحقائق الخارجية الموضوعية، والاسم بهذا المعنى، هو الذي جرى الخلاف بين الفلاسفة، في أنّه عين المسمى أو غيره، الأمر الذي يدعونا لأن نقول: إن للإسلام معنى آخر غير اللفظ، إذ لا شك بأن اللفظ غير المعنى.
والاسم بهذا الإطلاق ـ أيضاً ـ هو الذي يتبارك ويتقدس: ?سبح اسم ربك الأعلى? (2)، إذ لا معنى لأن يكون اللفظ هو الذي يتبارك ويتقدس (3).
كما أنّه هو الذي يوصف بالحسنى ?... له الأسماء الحسنى? (4)، بما يعبر هذا الاسم عن الأوصاف الحسنة.
وهذا هو ما نفهمه، مما في دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: «وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء»، فإن هذه الأسماء إنما هي مظاهر الأوصاف الإلهية الحقيقية التي تجلت في كل الوجود، من القدرة والحكمة والرحمة والجود
والكرم.. الخ.
فتعليم آدم الأسماء كلها، هو تعليمه الصفات والخصائص التي تتصف بها الأشياء.
وبعد هذا كله نجدهم يختلفون في حقيقة هذه المسميات والمراد منها في الآية الكريمة.
وهناك اتجاهان رئيسيان يطرحان في هذا المجال:
الأول: إن هذه المسميات موجودات أحياء عقلاء وهي إما:
أ ـ عبارة عن أسماء العناصر والذوات الإنسانية الموجودة في سلسلة امتداد الجنس البشري من الأنبياء والربانيين والأحبار الذين جعلهم الله تعالى شهوداً على البشرية والإنسانية، واستحفظهم الله تعالى على كتبه ورسالاته: ?إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء...? (1)، ويكون وجود هذا الخط الإنساني الإلهي الكامل، هو الضمان الذي أعده الله تعالى لهداية البشرية والسيطرة على الهوى، وتوجيه الإرادة نحو الخير والصلاح والكمال.
وقد ورد هذا الاتجاه في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، فعن الصادق (عليه السلام)، «إن الله تبارك وتعالى علم آدم (عليه السلام) أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم ـ وهم أرواح ـ على الملائكة ?فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين?، بأنكم أحق
بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم (عليه السلام) ?قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ? قال الله تبارك وتعالى: ?يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم?، وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته»(1).
فكأنه أريد بهذا التعليم بيان الخلفاء الحقيقيين والذوات الطاهرة النقية من عباد الله الصالحين، الذين استحق بهم الجنس البشري صلاحية الخلافة على الأرض، باعتبارهم المسبحين المقدسين لله مع الإرادة والعلم، وبذلك يفضلون على الملائكة.
ويكون العلم بهذه الأسماء معناه تحقق وجودها في الخارج باعتبار مطابقة العلم للمعلوم، وتعليم آدم الأسماء إنّما هو إخباره بوجودها، أو إيداعها في صلبه.
أو يكون العلم بالأسماء معناه إيداع هذه الكمالات التي يتصف بها هؤلاء المخلوقون في خلقته وتأهيله للوصول إليها بإرادته، وهي صفات وكمالات تمثل نفحة من الصفات والكمالات الإلهية، ولا سيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن كلمة الأسماء في القرآن الكريم تطلق على الصفات الإلهية بنحو من الإطلاق.
وقد مال أستاذنا الشهيد الصدر قدس سره إلى هذا الرأي، حيث افترض بأن الملائكة حين أخبرهم الله تعالى بإرادته في أن يجعل آدم خليفة في الأرض، ثارت في نفوسهم مخاوف أن يفسد هذا الخليفة الذي يتمتع بالإرادة والاختيار، وعندما أخبرهم الله تعالى بوجود الأنبياء والأولياء والأوصياء، أي بوجود هذا الخط الذي يعبر عنه بخط الشهادة الذي يكون مقتضاه شهادة أصحاب هذا الخط على الناس والنظارة على حركتهم وتعليمهم وهدايتهم، حينئذ استقرت نفوس
الملائكة، وذهبت عنهم الحيرة والخوف بعد معرفتهم لهذه الحقيقة (1).
ب ـ أو هي أسماء ذرية آدم وأسماء الملائكة، كما ورد ذلك عن الربيع بن زيد (2).
ج ـ ويرى العلامة الطباطبائي أنها موجودات عاقلة لها مراتب من الوجود، ويمكن من خلال العلم بها أن يسير الإنسان في طريق التكامل.
وكأن أصحاب هذا الاتجاه استفادوا ثبوت الحياة والعقل لهذه الموجودات من قوله تعالى: ?.. ثم عرضهم..?، حيث استخدم ضمير الجماعة المختص بمن يعقل (3).
ولكن الشيخ الطوسي يناقش فكرة الاعتماد على الضمير بقوله: (وهذا غلط لما بيناه من التغليب للعاقل على غيره وحسنه، كما قال تعالى: ?والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على أربع...? (4)،فحينما يكون المورد شاملاً للعقلاء وغيرهم يغلب ضمير العقلاء.
الثاني: أن هذه المسميات تعني الحقائق والأشياء في هذا الكون وما يتعلق بعمارة الدين والدنيا من غير تحديد ولا تعيين.
وقد تبنى هذا الاتجاه عدد كبير من المفسرين، وهو الظاهر من كلام الشيخ الطوسي (5)، والرازي (6)، في تفسيرهما، والشيخ محمد عبده (7)، وحكاه الطبرسي (8)، عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعن أكثر المتأخرين.
وهذا الاتجاه مروي عن أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً، فقد ورد في تفسير علي بن
إبراهيم القمي، عن الصادق (عليه السلام)، في تفسير قوله: ?وعلم آدم الأسماء كلها...?، قال: «أسماء الجبال والبحار والأودية والنبات والحيوان» (1).
وفي مجمع البيان عن الصادق (عليه السلام) أيضاً ـ أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علّمه» (2).
وفي تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) سألته عن قول الله: ?وعلم آدم الأسماء كلها...? ماذا علمه ؟ قال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علّمه»(3).
وهذا الرأي هو الصحيح لما عرفت من عدم اختصاص المسميات بالوجودات العاقلة بدعوى قرينة (ضمير الجمع للعاقل) المدفوعة، كما أنّه الرأي الذي ينسجم مع واقع الإنسان من ناحية، لأن الله تعالى أعطى الإنسان قدرة الإدراك وموهبة العلم بالحقائق، ولم يجعل ذلك مختصاً بالعقلاء من الموجودات، بل هي شاملة وغير محدودة وقابلة للنمو والتطور، وبذلك أمتاز الإنسان على الملائكة.
ـ المصدر السابق: 255.
ـ البقرة: 30 ـ 39.
ـ البقرة: 30 ـ 31، المنار 1/254 ـ 255.
ـ كمال الدين للصدوق 1: 25، رواه بطريقين ضعيفين، ط الاعلمي.
ـ تفسير القمي 1 / 56.
ـ الأعراف: 10 ـ 27.
ـ المنار: 1 ـ 254.
ـ فاطر: 39.
ـ التبيان 1: 132.
ـ المائدة: 44.
ـ المنار 1 / 262.
ـ المنار 1: 256.
ـ المصدر السابق.
ـ آل عمران: 14.
ـ المصدر السابق.
ـ التفسير الكبير 2 /176.
ـ المصدر السابق: الموضوع نفسه.
ـ خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء.
2 ـ الأعلى: 1.
2 ـ يونس: 13 ـ 14.
2 ـ الإنسان: 2 ـ 3.
2 ـ مفردات الراغب: مادة (خلف).
2 ـ المصدر السابق.
2 ـ الأنعام: 165.
2 ـ التبيان 1/138.
2 ـ مجمع البيان 1 / 152.
2 ـ البحار 11 / 117، ح 47.
2 ـ الميزان 1 / 117.
2 ـ وهذا يعني توجيه الإنسان للبحث والتدبر في خلق الإنسان والكون.
2 ـ التبيان للطوسي 1: 138.
3 ـ المنار 1: 262.
3 ـ المصدر السابق.
3 ـ العياشي 1: 51.
3 ـ الميزان 1: 117.
3 ـ المنار 1: 262.
3 ـ الأحزاب: 72.
3 ـ التبيان للطوسي 1: 131.
3 ـ الميزان 1/ 115و119، والتفسير الكبير 1: 121.
4 ـ الميزان 1: 118.
4 ـ طه: 8.
4 ـ النور: 45، التبيان للطوسي 1: 138.
5 ـ المنار 1: 260
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ نور الثقلين 1: 51، « إني جاعل في الأرض خليفة لي عليهم فيكون حجة لي عليهم في أرضي على خلقي».
6 ـ التفسير الكبير 3: 176.
7 ـ المنار 1: 262.
8 ـ مجمع البيان 1: 152، ط الإعلامي.